طالما أبهرتني مسالك “شوبنهاور” نحو اللاجدوى، وكون العالم في نظره مكانًا للمعاناة، وأن الاجدوى هي أصل الحياة ولابد للإنسان أن يتوقف عن التكاثر حتى ينقرض. الفلسفة تمنح بُعدًا ثالثًا في التفكير، واستقراءً هادئًا وثاقبًا أحيانًا للمستقبل، فهل كان يعلم “شوبنهاور” أن الرأسمالية سوف تأخذ على عاتقها إثبات فكرته، وتأكيد مبدأ المعاناة الملازمة للحياة؟
سباق الرأسمالية نحو الكمال
بالرغم من كل هذا التقدم والثراء الذي يشهده العالم الحديث، إلا أن الرأسمالية أطلقت صافرة سباق لا ينتهي نحو الكمال دون أن تخبر المتسابقين عن نقطة الكمال المنشودة، الأمر الذي يزيد السباق إثارة ويفرغه من مضمونه في آنٍ واحد.
التحول إلى اقتصاد المعرفة
في القرن الحادي والعشرين، أصبحت المعرفة هي المحرك الرئيسي للنمو الاقتصادي، وفقاً لتقرير البنك الدولي: حوالي 50% من الناتج المحلي الإجمالي في الاقتصادات المتقدمة يعتمد على الصناعات القائمة على المعرفة، هذا التحول جعل التعليم والتدريب المستمرين ضرورة حتمية للبقاء في سوق العمل التنافسي؛ مما أدى إلى تضخم سوق التعليم بحيث من المتوقع أن تصل قيمة سوق التعليم والتدريب العالمي إلى 10 تريليون دولار بحلول عام 2030، وذلك حسب تقرير مؤسسة “Global Industry Analyst” هذا التضخم يعكس كيف أصبحت المعرفة والتعليم منتجات استهلاكية، تسوق بقوة وتجبر الجميع أفرادًا ومؤسسات على الاستثمار الدائم فيها.
انتهت أسطورة مراحل حياة الإنسان الثلاث الكلاسيكية بين: التعلم، العمل، التقاعد، فقد أصبح يُغير الفرد وظيفته بمعدل 12 مرة خلال حياته المهنية، هذا التنقل المستمر يعكس الضغط المتزايد على الأفراد لمواصلة التعلم وتحديث مهاراتهم ذات الصلاحية القصيرة في دائرة مفرغة لا تنتهي من التعليم والتدريب؛ مما يحمل الأفراد ضغوطًا وآثارًا نفسية واجتماعية عنيفة، وذلك وفقاً لمنظمة التعاون الاقتصادي والتنمية (OEC).
تأثير التعليم المستمر على الصحة النفسية
تشير دراسة أجرتها جمعية علم النفس الأمريكية (APA) إلى أن 60% من البالغين العاملين يعانون من التوتر المرتبط بالعمل، وأن التعليم المستمر ومبدأ (Life Lounge Learning) يشكل جزءً كبيرًا من هذا الضغط، الشعور بالحاجة الدائمة لتحسين المهارات والحصول على شهادات جديدة يزيد من الضغط النفسي والإجهاد؛ مما يؤدي إلى تدهور الصحة النفسية والجسدية، ويعمق الصراع بين العمل والتعلم لصالح العمل، وليس لصالح الإنسان.
“السوق التعليمية” هذا المصطلح يعبر بدقة عما نشهده من تطبيق دقيق لقانون العرض والطلب على المنتجات التعليمية، حيث تحولت المؤسسات التعليمية إلى شركات تقدم خدمات تعليمية كمنتجات يمكن شراؤها وبيعها. في الولايات المتحدة -على سبيل المثال- بلغت إيرادات صناعة التعليم العالي حوالي 650 مليار دولار في عام 2021 بحسب تقرير ”Education Marketing Trends“ وتنفق المؤسسات التعليمية أكثر من 2 مليار دولار سنويًا على الإعلانات لجذب الطلاب، تظُهر هذه الحملات التعليم كوسيلة لتحقيق النجاح السريع، والشعور بالكمال والتحقق؛ مما يزيد من الإقبال على الدورات التدريبية والشهادات.
🔸اقرأ أيضاً: التسويق عبر المؤثرين | 10 أسباب لنمو وتطور العلامة التجارية
في أدبيات الرأسمالية، يعمل المال كآلية للانتخاب الطبيعي، فالأفراد الذين يمتلكون المال يمكنهم الحصول على تعليم أفضل، مما يتيح لهم فرص عمل أفضل ورواتب أعلى، وفقًا لتقرير “التعليم العالمي 2020” الصادر عن منظمة اليونسكو، فإن الفجوة في الوصول إلى التعليم الجيد تتسع بين الدول الغنية والفقيرة، حيث يزداد إنفاق الأسر الفقيرة على التعليم بنسبة 8% سنويًا مقارنة بنسبة 2% للأسر الغنية، يزيد هذا النظام من عدم المساواة الاجتماعية والاقتصادية.
في الوقت الذي يستفيد فيه الأغنياء من التعليم الجيد والفرص الوظيفية الأفضل، يظل الفقراء عالقين في دوامة من الديون والمهن غير المستقرة، تقرير “الاتحاد الدولي للتعليم” لعام 2021 أشار إلى أن نسبة كبيرة من الطلاب في الدول النامية يغرقون في ديون طائلة بسبب القروض التعليمية، مما يزيد من الفجوة بين الطبقات الاجتماعية.
الختام
في النهاية يبقى السؤال: هل نحن نسعى نحو الكمال الحقيقي، أم أننا عالقون في سباق لا نهائي نحو هدف بعيد المنال؟
🔶شاهد أيضاً: تحليل الاسواق ودراسة المشاريع لتحقيق استثمار ناجح مع معتز ابو عنق مؤسس Studio VMS